كلما مر الوقت إشتد و إحتدم الصراع بين المطالبين بإقامة دولة على الأساس الديني و بين المطالبين بالفصل التام بين الدين و الدولة و إقامة دولة علمانية على أسس الحريات المطلقة و الاحتكام الي رأي الأغلبية في الفصل في كل أمور الحياه. المحزن في الأمر أن كلا الطرفين يعتمدان إعتماداً أساسياً في خطابهم على قذف و التقليل من الآخر،كأن هذا هو الطريق الوحيد لاكتساب الشعبية اللازمة. أصبح من لايريد العلمانية ينتمي تلقائياً إلى التيار الديني، و من لا يرحب بالتيار الديني و لا يقبل تطبيقه بالشكل المعروض حالياً يصبح علمانياً قلباً و قالباً، بين هذا و ذاك لا يجد مثلي من الذين لا يقتنعون بالطرفين تياراً سياسياً يمثلهم حقاً في المجتمع.
أنا لا أريد دولة بلا هوية دينية، لكن في نفس الوقت لا أريد من يتكلم بإسم الدين و من خالفه أصبح مرتداً أو لا يسير على طريق الهدى. أنا لا أؤمن بالحرية المطلقة و لكني لا أريد من يقيد حريتي الشخصية بإسم الدين و الدين منهم بريء براءة الذئب من دم إبن يعقوب.
كيف ننشئ هذا التيار الوسطي؟ لعل الاجابة تكمن بإلقاء نظرة إلى الخطاب السياسي لكلا الفريقين، الذي كما ذكرت تعتمد على القذف المتعمد للطرف الآخر دون الخوض في تفصيل تطبيق فكره على المستوى العملي.
السادة العلمانيون؛ لماذا لا تذكروا تفصيلياً أسباب إنشاء التيار العلماني؟ كيف كانت سلطة الكنيسة في أوربا في العصور الوسطى؟ هل يمكن مقارنة هذه السلطة المطلقة آنذاك بسلطة أو سيطرة المسجد الآن؟ كيف لعبت ما يسمى بمحاكم التفتيش دوراً محورياً في بزوغ نجم العلمانية بعد ذلك؟ لماذا أنتم مقتنعون أن تطبيق الشريعة الاسلامية سيؤدي بمصر إلى النموذج الايراني؟ ربما يؤدي بنا إلى دولة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، الذي كان في عهده تفيض خيرات البلاد حتى بعد إطعام الطير!! و هذا يدفعنا إلى السؤال التالي هل حقاً إيران تطبق الشريعة الاسلامية؟
الاخوة في الدين، لماذا تصرون في حديثكم عن تطبيق الشرع في فرض الجزية و إقامة حد السارق و تنسون أساس و قلب الشريعة الاسلامية و هي تحقيق العدالة الاجتماعية، و أن العدل هو أساس الديمقراطية الحقيقية. لماذا لا تذكروا في خطابكم كيف كانت معاملة المسلمين الأوائل لغير المسلمين من أقباط و يهود و بالاخص كيف عامل عمرو بن العاص أقباط مصر بعد فتحها؟ كيف وصل غير المسلمين في عهد الخلافة الإسلامية إلى أعلى و أرفع مناصب الدولة؟
عندما يدرك أرباب الطرفين إجابات هذه الأسئلة، وقتها فقط أشعر بوجود من يمثل فكري سياسياً في المجتمع.
لا أريد دولة قائمة على النموذج الأمريكي أو الفرنسي أو الايراني أو حتى الماليزي، أريد دولة قائمة على النموذج المصري. لا يوجد تجربة في العالم يمكن استنساخها كما هي بجميع تفاصيلها، لكن كل شعب يأخذ من كل تجربة ما يفيده و ينفعه و في نفس الوقت ما يتناسب مع قيمه الاجتماعية و هويته التاريخية و الحضارية.
تبقي ملحوظة أخيرة ، عندما اتحدث عن التيار الديني، أنا لا أعمم الحديث على كل المشايخ و فقهاء و علماء الدين، أرى منهم من يتحدثون بعقلانية شديدة و ينتابني شعور بالراحة و الطمأنينة عندما استمع اليهم، لكن للأسف الشديد في عصور إنتشار الجهل السياسي، يختفي دائماً صوت الحق و العقل و يبزغ نجم المتطرفون و المتعصبون، هؤلاء من ينصب حديثي اليهم.